• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صورة الدين على مرآة القرآن

أسرة البلاغ

صورة الدين على مرآة القرآن

◄أيّها القارئ الكريم دعنا نرى صورة الدِّين(*) على مرآة القرآن الكريم.

- أوّلا: أوصاف القرآن وتسمياته للدِّين:

ملاحظة: أيّ تسمية أو وصف للدِّين في القرآن الكريم لا تؤخذ بمعزل عن التسميات والأوصاف الأخرى، فالدِّين هو كل ما وصفه به القرآن، وإن كانت بعض التسميات كلِّية شاملة مثل: "الإسلام". وفيما يلي استعراض سريع لتلك الأوصاف الحاملات لدلالات كبيرة وغنيّة.

    

1- (الدِّين = الإسلام):

يقول تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ...) (آل عمران/ 19).

الإسلام: هو الإقرار والتصديق والطاعة، وخلاصته الانقياد والاستسلام لأوامر الله ونواهيه التي جاء بها النبي (ص) من عنده تعالى.

    

2- (الدِّين = الصراط المستقيم):

يقول تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/ 161).

الصّراط المستقيم: خطّ الإيمان والمنهج الإلهي الذي يمثِّله الخضوع لأوامر الله ونواهيه سواء في العقيدة أو الشريعة أو الأخلاق، وهو الإسلام، وهو طريق الأنبياء الموصل إلى الجنّة.. إنّه "خطّ السير".. إنّه (خارطة الطريق).

    

3- (الدِّين = الحقّ):

قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ...) (التوبة/ 33).

دين الحقّ، أي الدِّين المنسوب إلى الحقِّ، أي غايته الحقّ، فما دام هو من عند الله الحقّ فهو حق.

    

 4- (الدِّين = دينُ الله):

قال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران/ 83).

الإسلام دين كلّ الكائنات السماوية والأرضية التي لا تصلح ولا تستقيم ولا تسعد إلا به، ولا تجرّ مخالفته إلا الانحطاط والتخلّف والتِّيه والخسران العظيم، فكيف نطلب ما يُضرّ ويُفسد، ونترك ما ينفع ويُسعد؟!

     

5- (الدِّين القيِّم)!!

يقول تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30).

القيم: من القيمة وهي الشيء النفيس، والقيِّم من القيمومة، أي هو المسؤول والمشرف والمهيمن على مَن هم دونه، فالأب قيِّم العائلة، والدِّين الإسلامي قيِّم الأديان كلّها، وهو الذي يقوم على إدارة شؤون الحياة والإنسان بجميع مرافقها.

    

6- (دين اليُسْر)!!

قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج/ 78).

الحرج: المشقّة، والله يريدُ بعباده اليُسر لا التشديد والتضييق، إلا إذا كان في التضييق والتشديد مصلحة عامّة أو خاصّة، وهو هنا رحمة ليس ضرراً.

    

7- (الدِّين الكامل)!!

قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).

كمال الدِّين، وتمام النِّعمة، والرضا بالإسلام ديناً، كلّها مؤشّرات على عظمة الدين الإسلامي الذي يغطِّي مساحة الحياة كلّها، ويقود الحياة كلها إلى الكمال والنِّعم والسلام، فليس هناك رفاغ أو شيء لم يقل فيه الإسلام أو الدِّين كمّله.

    

- ثانياً: مستلزمات ومتطلّبات هذا الدِّين:

دعا القرآن الكريم إلى الاهتمام بالدِّين من حيث:

1- إقامة الوجه له:

قال تعالى: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يونس/ 105).

إقامة الوجه للدِّين = الإقبال عليه بالتوجّه بثبات ومن غير انحراف.

فالدِّين هو نقطة الهدف التي تتّجه الأنظار كلها إليها، وعندما تتطلّع الوجوه إلى الدِّين وتتحرّك الخطى كلها باتجاهه: فكراً ومشاعر وسلوكاً، فعندها يمكن أن يُقال أنها متديِّنة.

    

2- إقامته:

 (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/ 13).

يوصَف الإسلام بأنّه "عُصارة الشرائع" النبوية السابقة؛ لأنّ دعوته للتوحيد (لا إله إلا الله) ليست جديدة، بل هي دعوة جميع الأنبياء، وإقامة الدِّين تعني تحريكه بنشاطه وفاعليّة في كل زمان ومكان، وأن آفة الدِّين التفرقة؛ لأنّه أكبر عوامل الوحدة، فإذا انقطع حبل الدين فلا يبقى هناك ما يربط الناس ويشدّ أواصرهم بقوّة كقوّته.

    

3- الإخلاص فيه:

 (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (الأعراف/ 29).

لا عبودية إلا الله، ولا طاعة ولا خضوع ولا انقياد ولا استسلام أو تسليم إلا له.

"دينُ الفِطرة":

يقول تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30).

الدِّين ليس فكرة خارجيّة تدخل إلى الذِّهن وتردُ إليه من هنا وهناك، بل هو حالة عميقة متجذِّرة في نفس الإنسان، أي مركّبة فيه منذ أن يُخلق، ولذلك فالدِّين ينبعث من ذات الإنسان ويتفاعل في عقله ليتحوّل إلى فكرٍ وشعورٍ ومعاناةٍ والتزام.

هو في أصل الخلقة وليس شيئاً طارئاً عليها.

"الدِّين الخالص":

قال تعالى: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر/ 3).

الدِّين الخالص أي الصافي من كل الشوائب، والرافض لتعدّد الأرباب والآلهة، والأهواء والشهوات والتصورات الوهميّة، والوساطات والشفاعات والقرابات إلا لمن ارتضى، فالله تعالى وحده لا شريك له، ولا معبودَ سواه، وحتى طاعة الأنبياء هي طاعة له، فليس هناك

"لا إكراه في الدِّين":

يقول تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا) (البقرة/ 256).

الدِّين قناعة فكريّة داخليّة، فلا يُفرَض فرضاً، وإنما هو كماء الينبوع إذا وجد الفرصة السانحة تدفّق،.. فبعدما يقدِّم البراهين الصادقة والواضحة على أنّه دين الحق، وأنّ سواه الكفر والباطل والضلال، والتفاهة، فإنّ العقل ينجذب إليه بلا إكراه، وهدف الجهاد في الإسلام ليس إكراه الناس على الدِّين، بل دعوتهم للدِّين على اعتبار أنّ الدين لله، وأنّ مَن يبتغي غيره لن يُقبَل منه. وكل طاعة ما لم تكن متفرِّعة أو منبعثة عن هذه الطاعة فهي معصية، وهي طاعة أخطأت سيرها واتجاهها وهدفها.

    

4- التفقّه فيه:

قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة/ 122).

النفير = الجهاد، والقرآن هنا يدعو إلى المعرفة الدينيّة وضرورة نشر الوعي الديني، فلا يصحّ أن تخرج الأُمّة كلّها للجهاد ولا يبقى مَن يفقِّه الناس في دينهم، إلا في ظروف خاصّة تستوجب النفير العام.

التفقّه في الدِّين = معرفة مفاهيمه وأحكامه، ممّا يعني وجود جماعة متخصِّصة في أمور العقيدة والشريعة يُسمّون (الفقهاء) يرجع الناس إليهم في معرفة أمور دينهم.

    

5- النُّصرةُ فيه:

قال تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (الأنفال/ 72).

يقول الدِّين رافعاً عقيدته: "مَن سمع منادياً يُنادي: يا للمسلمين فلم يُجببهُ فليس بمسلم".

المسلم يقع في أزمة.. يقع في محنة في محنة فيطلب الغوث والعون والنصرة، وعلى المسلمين أن يُجيبوه بحسب إمكاناتهم وإلا أثموا، فنصرُ المتديِّنين من الدِّين.

    

6- رفض استغلاله:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).

ليس لله وكلاءٌ، وليس ظلُّ على الأرض، ولا وسطاءَ مُنتدَبون، فحتّى الأنبياء لم يجعل الله لرجلٍ من قلبين من جوفه، أي لم يجعل له ولاءين: "ولاء لله وولاء لغير الله، فهذا شرك، والله يرفض الشِّرك، ولذلك قال تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون/ 6)، أي أنّه يرفض اقتراح المشركين بأن يكون هناك (دينان) أو (عبادتان) بل هو دين واحد فقط لا غير.. وعبادة واحدة ليس لها ثانٍ، وكلاهما لله تعالى وحده.

    

 (لا غلوّ في الدِّين):

قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ) (النساء/ 171).

الغلوّ: مجاوزة الحدّ. فلا غلوّ (في الاعتقادات) ولا غلوّ في (الممارسات) بل الدِّين توجيه للإنسان لكي يسير في خطّ الحقّ ليحصل على الخير من خلاله.

لذلك يمكنك أن تقول بثقة واطمئنان: إنّ كل إفراط وتطرّف في الدِّين هو ليس من الدِّين في شيء.

وفي سبب نزول الآيات:

 (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2).

يقول المفسِّرون نقلاً عن الروايات أنّ النبي (ص) كان يعبد الله كثيراً فيُكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورّمت قدماه، فأمره الله أن لا يُحمِّل نفسه كل هذا التعب والمشقّة، وقال له لا تجهد نفسك إلى هذا الحدّ.

ولاحقاً، قال (ص) في توجيه الأُمّة إلى نهج الاعتدال: "إنّ هذا الدِّين متين فأوغِلْ (ادخل) فيه برفقٍ، فإنّ المنبتّ (التائه الذي يواصل سيره) لا ظهراً أبقى (أي يتعب راحلته ودابّته) ولا أرضاً قطع (أي لم يصل إلى هدفه)!! وهذا هو منهج الاعتدال والتوازن في التربية الدينيّة.

هم عبادُ الله الذين يطيعونه ويعملون بها أمرهم به، وليس بين الله وبين أحد قرابة، حتى أنّ النبي (ص) كان يُخاطب عمّته (صفيّة) وابنته (فاطمة) وبني هاشم أنّه لا يُغني عنهم من الله شيئاً، ويطلب منهم أن يعملوا في مكانتهم كما هو عامل.►

....................................................

الهامش:

(*) الدِّين: في معاجم اللغة وقواميسها يعني: الشريعة، أو الطاعة والإنقياد، يُقال: يُدين بدين معيّن، أي يطيعه ويعبده، والدِّين: ما التزمه الإنسان، ومنه "كما تُدين تُدان"، ومعناه الجزاء، فيوم الدِّين: يوم الجزاء والحساب والحكم. وبكلمة مختصرة، فالدِّين: الخضوع والانقياد لبرنامج أو مقرّرات معيّنة، ومن مصاديقه: الطاقة، والتعبّد، والمحكوميّة والتسليم.

 

    المصدر: كتاب حياة صالحة.. هذا هو الدين!!

ارسال التعليق

Top